
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ {البقرة/241}
هذا تأكيد على دفع الهدية للمطلقات اللواتي لم يُدخل بهن ولم يحدد لهن مهر فإن على المتقين أن يقدموا لهن هدية مناسبة وقد بينا هذا الحكم في آية سابقة.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {البقرة/242}
لقد بيّن الله لنا آياته وأحكامه وما علينا سوى أن نتدبرها ونتفكر بها ونستفيد منها ونعمل بمضمونها لأن في تركها خسارة كبرى لنا في الدنيا والآخرة بعد أن أرشدنا الله إلى الخير.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ {البقرة/243}
بعد حديث القرآن الكريم عن العديد من الأحكام الشرعية راح يبين لنا بعض العبر علنا ننتفع بها ونتذكر، فلقد انتشر مرض الطاعون في إحدى مدن الشام وأخذ يحصد الناس بسرعة عجيبة، فهجر المدينة جمع من الناس أملاً في النجاة من الموت وإذ نجوا من الموت فعلاً بهروبهم من ذلك الجو شعروا في أنفسهم بشيء من القدرة والإستقلالية، وحسبوا أنّ نجاتهم مدينة لعوامل طبيعية غافلين عن إرادة الله ومشيئته، فأماتهم الله في تلك الصحراء بالمرض نفسه.
وقيل: إنَّ نزول المرض بأهل هذه المدينة كان عقاباً لهم، لأنّ زعيمهم طلب منهم أن يستعدّوا للحرب ويخرجوا من المدينة ولكنّهم رفضوا الخروج للحرب بحجّة أنّ مرض الطاعون متفش فابتلاهم الله بما كانوا يخشونه ويفرّون منه، فانتشر بينهم مرض الطاعون، فهجروا بيوتهم وهربوا من المرض إلى خارج المدينة حيث انشب المرض مخالبه فيهم وماتوا. ومضى زمان على هذا حتّى مرّ يوماً “حزقيل” أحد أنبياء بني إسرائيل بذلك المكان ودعا الله أن يحييهم، فأستجاب الله دعاءه وأحياهم.
لقد أراد سبحانه أن يعطينا دليلاً على قدرته في خلقه فهو يتصرف في خلقه كيفما يشاء وهو بذلك يلقي الحجة علينا كيلا نقول يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فيجب علينا أن نفهم ونشكر ونعمل صالحاً كيلا يعاقبنا الله كما عاقب الذين خالفوه من قبل.
لقد جاء في الروايات أنّ عددهم كان عشرة آلاف، وقيل أكثر من ذلك.
ثمّ أنّ الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت: (فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم)لتكون قصّة موتهم وحياتهم مرّة اُخرى عبرة للآخرين. ومن الواضح أنّ المراد من (موتوا) ليس الأمر اللفظي بل هو أمر الله التكويني الحاكم على كلّ حيّ في عالم الوجود، أي أنّ الله تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعاً في وقت قصير، (ثمّ أحياهم) وهو إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم إستجابة لدعاء (حزقيل النبي) ولمّا كانت عودتهم إلى الحياة مرّة اُخرى من النعم الإلهيّة البيّنة قال تعالى (إنّ الله لذو فضل على النّاس ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون)فليست نعمة الله وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {البقرة/244}
تشرع هذه الآية مسألة القتال والجهاد في سبيل الله وقد وردت للتأكيد على أهمية هذه العبادة التي بها تحيا الأمة وتنال السعادة في الدنيا والآخرة.
مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {البقرة/245}
جاء في سبب نزولها أن النبي(ص) قال: من تصدق بصدقة كان له مثلاها في الجنة، فقال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله إنّ لي حديقتين إن تصدقت بأحدهما فإن لي مثليها في الجنّة، قال: نعم. قال: واُم الدحداح معي، قال: نعم. قال: والصبية معي. قال: نعم. فتصدّق بأفضل حديقتيه فدفعها إلى رسول الله. فنزلت الآية فضاعف الله له صدقته، وهذا الحكم يشمل كل إنسان يتصدق لوجه الله تعالى فإن تصدق بصدقة لله فالله وحده يعلم أجرها لأن ثواب الله عظيم وهو أكرم الأكرمين، وبيده القبض والبسط فهو يرزق من يشاء لحكمة ويقبض الرزق عمن يشاء لحكمة، ورغم أننا وما نملك لله فقد عبّر عن صدقنا بالقرض وهذا دليل على لطف الله وكرمه إذ لسنا سوى مستخلَفين ومؤتمنين على هذا المال فهو في الواقع ليس ملكنا الحقيقي ورغم كونه كذلك فقد جعل الله على إنفاقه أجراً عظيماً.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {البقرة/246}
عشرات الآيات من سورة البقرة تناولت الحديث عن بني إسرائيل ماذا حدث لهم وكيف أنعم الله عليهم بنعم جمى وكيف أنهم لم يحفظو النعمة حتى خسروها، وهذه الآية وبضع آيات بعدها تروي لنا قصة لا بد من التعرف عليها حتى نأخذ العبرة منها ونحذر من الوقوع فيما أوقع فيه بنوا إسرائيل أنفسهم فلقد استُضعف اليهود من قِبل الفراعنة فنجاهم الله حين بعث إليهم موسى حتى بلغوا من القوة مبلغاً عظيماً وظنوا أنهم سيطروا على الوضع بشكل نهائي فأخذتهم العزة بالإثم وسيطر عليهم الغرور وخصوصاً بعد أن اختار الله كليمه موسى إلى جواره حيث خلّف فيهم صندوق العهد الذي كان يبعث فيهم القوة والطمأنينة، إن كثرة النعم التي نزلت على اليهود أعمت أبصارهم وقلوبهم فكفروا بدل أن يشكروا وراحوا يزورون الحقائق ويخالفون الأحكام الإلهية ويقتلون الأنبياء بغير حق ويفسدون في الأرض حتى سلط الله عليهم قوماً هزموهم وأخذوا منهم صندوق العهد فلم يعودوا قادرين حتى على الدفاع عن أنفسهم من أي عدو يهاجمهم ولهذا فقد قُتل منهم الكثير وأسر من أبنائهم الكثير ونُفوا من الأرض، وبقوا على تلك الحالة المزرية حتى بعث الله إليهم أحد أنبيائه فاجتمعوا حوله وطلبوا منه أن يختار لهم أميراً يتوحدون تحت لوائه حتى يستعيدوا عزتهم وكرامتهم فقال لهم نبيهم: أخشى إن اخترت لكم قائداً أن تخذلوه عندما يدعوكم إلى الجهاد ومحاربة العدو: فقالوا: كيف يمكن أن نعصي أوامر أميرنا ونرفض القيام بواجبنا، مع أنّ العدوّ قد شرّدنا من أوطاننا واستولى على أرضنا وأسر أبناءنا: فصدقهم النبي ودعا الله تعالى أن يحقق لهم ما طلبوه فأوحى إليه بأنه اختار لهم طالوت ملِكاً عليهم، وكان طالوت رجلاً ذكياً وقوياً قد من الله عليه بالقوة في الجسم والعقل وكان يعمل مع أبيه في الزراعة في قرية نائية، وذات مرة أضاع طالوت بعض ماشيته فراح يبحث عنها حتى اقترب من مدينة صوف فققر حينها أن يزور النبي فيها وما إن رآه النبي حتى عرفه وأدرك بأن الله تعالى أرسله ليكون قائداً على بني إسرائيل وعندما انتهى طالوت من قصّته عن ضياع ماشيته، قال له اشموئيل النبي: أمّا ماشيتك الضائعة فهي الآن على طريق القرية تتّجه إلى بستان أبيك فلا تقلق بشأنها، ولكني أدعوك لأمر أكبر من ذلك، إنّ الله قد أختارك لنجاة بني إسرائيل، فتعجب طالوت لذلك ولكنه قبِل بتلك المهمة.
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {البقرة/247}
قال النبي لبني إسرائيل: لقد اختار الله طالوت لقيادتكم، فعليكم جميعاً أن تطيعوه، وأن تتهيّأوا للجهاد ومحاربة الأعداء فاستنكر اليهود ذلك لأنهم كانوا يعتقدون بأن أميرهم سوف يكون ذا نسب معروف وثروة كبيرة فوقعوا في حيرة من أمرهم فاعترضوا قائلين: كيف يمكن لطالوت أن يحكمنا، ونحن أحقّ منه بالحكم فقال اشموئيل : إنّ الله هو الذي اختاره أميراً عليكم فرفضوا الأمر وطلبوا الدليل.
وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {البقرة/248}
قال اشموئيل: الدليل هو أنّ التابوت الذي هو أثرٌ مهمٌّ من آثار أنبياء بني إسرائيل، سيعود إليكم يحمله جمع من الملائكة ولم يمض وقت طويل حتّى ظهر الصندوق، وعلى أثر رؤيته وافق بنو إسرائيل على قيادة طالوت لهم.
جاء في التاريخ أنّه عندما وقع صندوق العهد بيد عبدة الأصنام في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه أصنامهم، أصابتهم على أثر ذلك مصائب كثيرة، فقال بعضهم: ما هذه المصائب إلاَّ بسبب هذا الصندوق، فعزموا على إبعاده عن مدينتهم وديارهم، ولمّا لم يرض أحد بالقيام بالمهمّة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء. واتّفق هذا في الوقت الذي تمّ فيه نصب طالوت مَلكاً على بني إسرائيل. وأمر الله الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو مدينة اشموئيل. وعندما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم، اعتبروه إشارة من الله على اختيار طالوت مَلكاً عليهم.
وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة، لأنّهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى بني إسرائيل.
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{البقرة/249}
تسلم طالوت الحكم وراح يخطط للقضاء على العدو الذي يتهددهم فاختار من بني إسرائيل من كان كل تفكيره محصوراً في الجهاد وبهذا فصل بين المقاتلين وغيرهم وسرعان ما اجتمع حوله جمع تظهر عليه الكثرة والقوّة، وتحرّكوا صوب العدو وفي الطريق وتحت أشعة الشمس المحرقة أصابهم العطش فأراد طالوت أن يختبرهم ويصفيهم، فقال لهم: سوف نصل قريباً إلى نهر في مسيرتنا، وأنّ الله يريد أن يمتحنكم به، فمن شرب منكم منه وارتوى فليس منّي، ومن لا يشرب إلاَّ قليلاً منه فهو منّي. ولكنّهم ما أن وقعت أنظارهم على النهر حتّى فرحوا وهرعوا إليه وشربوا منه حتّى ارتووا، إلاَّ نفرٌ قليلٌ منهم ظلّوا على العهد فأدرك طالوت أنّ أكثرية جيشه يتألّف من أُناس ضعفاء الإرادة وعديمي العهد، ما خلا بعض الأفراد المؤمنين، لذلك فقد تخلّى عن تلك الأكثرية واتّجه مع النفر المؤمن القليل خارجاً من المدينة إلى ميادين الجهاد إلاَّ أنّ هذا الجيش الصغير انتابه القلق من قلّته، فقالوا لطالوت: لا طاقة لنا على مواجهة جيش قويّ، غير أنّ المؤمنين الحقيقيين لم يرهبوا كثرة العدوّ وقلّة عددهم، فخاطبوا طالوت بكلّ شجاعة قائلين: قرّر ما تراه صالحاً، فنحن معك حيثما ذهبت، ولسوف نجالدهم بهذا العدد القليل بحول الله وقوّته، ولطالما انتصر جيش صغير بعون الله على جيش كبير، والله مع الصابرين فاستعدّ طالوت بجماعته القليلة المؤمنة للحرب، ودعوا الله أن يمنحهم الصبر والثبات.
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {البقرة/250}
وعند التقاء الجيشين خرج جالوت من بين صفوف عسكره وطلب المبارزة بصوت قوي أثار الرعب في القلوب، فلم يجرأ أحد على منازلته. في تلك اللحظة خرج شابٌ اسمه داود من بين جنود طالوت، ولعلّه لصغر سنّه، لم يكن قد خاض حرباً من قبل، بل كان قد جاء إلى ميدان المعركة بأمر من أبيه ليكون بصحبة اخوته في صفوف جيش طالوت. ولكنّه كان سريع الحركة خفيفها، وبالمقلاع الذي كان بيده رمى جالوت بحجرين فأصابا جبهته ورأسه، فسقط على الأرض ميّتاً وسط تعجّب جيشه ودهشتهم. وعلى أثر ذلك استولى الرعب والهلع على جيش جالوت، ولم يلبثوا حتّى ركنوا إلى الفرار من أمام جنود طالوت وانتصر بنو إسرائيل
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {البقرة/251}
لقد انتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن الله وبثبات المؤمنين واستطاع طالوت أن يقتل جالوت وقد آتاه الله الملك والحكمة وكثيراً من التعاليم الإلهية، الله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ولذلك يمنع من انتشار الفساد وصحيح أنّ سنّة الله تعالى في هذه الدنيا تقوم على أصل الحريّة والإرادة والإختيار وأنّ الإنسان حرٌّ في اختيار طريق الخير أو الشر، ولكن عندما يتعرّض العالم إلى الفساد والإندثار بسبب طغيان الطّواغيت، فإنّ الله تعالى يبعث من عباده المخلصين من يقف أمام هذا الطغيان ويكسر شوكتهم، وهذه من ألطاف الله تعالى على عباده، ولولا أن الله يدفع الناس بالناس لفسدت الأرض ولكن حكمة الله تجري في الوقت المناسب.
تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {البقرة/252}
تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني إسرائيل وأنّ كلاَّ منها يدل على قدرة الله وعظمته وهذا ما تلاه الله بالحق على رسوله ولا يكفر به إلا المعاند.
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {البقرة/253}
تلك إسم إشارة للبعيد وهذا النوع من الإشارة يُستعمل أحياناً للإحترام، وقد اختلف المفسرون في المراد من الرسل في هذه الآية هل هم الذين ذُكروا في سورة البقرة فقط أم جميع الذين ورد ذكرهم في القرآن أم أن الحكم يشمل كافة الأنبياء والرسل؟ والأقرب هو أن المراد بالرسل جميع الأنبياء لأن الألف واللام في لفظ الرسل وردت لبيان الإستغراق.
وصحيح أن جميع الأنبياء معصومون ومبعوثون من قبل الله لغاية واحدة إلا أن الله تعالى جعل تمايزاً بينهم ويعود هذا التمايز إلى حجم التضحيات التي يقدمها هذا أو ذاك وإلى حجم المسؤؤوليات الملقاة على عاتقه، وها هو القرآن يشرح لنا جانباً من سبب هذا التفضيل فيقول منهم من كلم الله، وهذا إشارة إلى تكليم الله لموسى الذي خصه ربه بهذا النوع من الوحي، ورفع بعضهم درجات، وهذه حقيقة ثابتة حيث لم يكن الأنبياء في عرض واحد فهناك من هو أفضل من الآخر، وقد ذكرت الآية نموذجين للتفضيل الأول تكليم موسى والثاني تأييد عيسى بروح القدس، وروح القدس إما جبرائيل أو قوى غيبية أخرى سدد الله بها عيسى، والسكوت عن غيرهما لا يدل على أنهما أفضل الأنبياء فهناك من هو أفضل منهم دون شك وهو خاتم الأنبياء محمد(ص) الذي سوف يجعله ربه شهيداً على الأنبياء في يوم القيامة.
ولو شاء الله لما اقتتل الناس بعد موسى وعيسى ولما اختلفوا ولكنهم بسبب اختيارهم اختلفوا فمنهم من آمن بما يجب الإيمان به ومنهم من كفر ولكل طريق منهما نتيجة واضحة، فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة في تفكير واحد ولكن سنته في الحياة هو أن يكون الإنسان مخيراً في المسائل التشريعية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ {البقرة/254}
يوجه الله أمراً للناس بأن ينفقوا مما رزقهم وهذا يعني النفقة الواجبة والمستحبة، ويعني أيضاً أن النفقة سبب من أسباب النجاة في يوم القيامة إذا صدرت بشروطها، ففي يوم القيامة لا يوجد فرص عمل ولا يوجد نفقات ولا شفاعة إلا بإذن الله، وهذا يعني أنه يجب العمل قبل يوم القيامة، ومن الأعمال التي أرشدنا الله إليها هي النفقة في سبيله، وبهذا يختبر الله عباده بما يحبون ليعلم من منا يعطي ومن منا يبخل.
اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ {البقرة/255}
هذه آية الكرسي وهي أهم آية في القرآن الكريم ويكفي لبيان فضيلة هذه الآية قول الرسول (ص) عندما سأله (اُبي بن كعب): أي آية من آيات كتاب الله أفضل؟ فقال الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم، وفي حديث آخر عن عليّ (عليه السلام) عن رسول الله قال: سيّد القرآن البقرة وسيّد البقرة آية الكرسي، يا علي إنّ فيها لخمسين كلمة في كلّ كلمة خمسون بركة: وعن الإمام الباقر (ع) قال: من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر. وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إن لكلّ شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي:
تبدأ الآية بذكر الذّات المقدّسة فتقول: (الله لا إله إلاّ هو)
و(الله) يعني الذّات الواحدة الجامعة لصفات الكمال، إنّه خالق عالم الوجود، لذا ليس في عالم الوجود معبود جدير بالعبادة غيره. وبعبارة (لا إله إلاَّ هو) يبيّن القرآن وحدانية خالق الوجود التي هي أساس الإسلام.
ولفظ الكرسي يدل على حجم العلم والسلطة وسلطة الله تعالى تسع السموات والأرض، فلا يعجزه حفظهما لأنه العلي العظيم.
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {البقرة/256}
كان لرجل في المدينة ولدان اعتنقا المسيحية فأراد أن يجبرهما على الرجوع إلى الإسلام فنزلت هذه الآية لتبين عدم جواز إجبار أحد على اعتناق الدين فلقد أنزل الله الحق وقد تبين الرشد والغي والحق والباطل فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر والحساب في يوم الحساب، فمن كفر بالطاغوت وآمن بالله الواحد الأحد فقد استمسك بالعروة الوثقى والطاغوت هو كل طريق يؤدي إلى غير الله تعالى والعروة الوثقى هي طريق الإيمان التي لا تنفصم، والله يعلم ما نفعل وما نختار وهو يسمع كل شيء.
اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {البقرة/257}
بعدما أشار الله تعالى إلى ظهور كل من الحق والباطل والرشد والغي وأنه لا إكراه في الدين أشار في هذه الآية إلى أنه ولي الذين آمنوا فهو يهديهم إلى الحق ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأما الذين كفروا فأولياؤهم الطاغوت بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان ومصاديق وإذا كان الطاغوت ولي الإنسان فهذا يعني أنه لن يغني عنه من الله شيئاً، ثم يبين الله أن الذين كفروا سوف يدخلون النار ولا يخرجون منها أبداً.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {البقرة/258}
بعد أن أشار الله تعالى إلى الطاغوت في الآية السابقة أشار هنا إلى حادثة جرت بين إبراهيم(ع) وطاغوت زمانه نمرود الذي ادعى أن حياة الناس وموتهم بيده بعدما أخبره إبراهيم بأن الله تعالى يحيي ويميت، وقد أحضر مسجونين عنده فقتل أحدهما وعفا عن الآخر ثم قال لإبراهيم أرأيت كيف أحيي وأميت فعندها أراد إبراهيم أن يُسكت حجة نمرود فقال له إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وعندها شعر نمرود بخيبته وضعفه ولم يستطع أن يجيب إبراهيم بشيء، ولهذا أخبرنا الله أنه لا يهدي الكافرين إلى الحق وإنما يهدي المؤمنين كما هدى خليله إبراهيم إلى بيان تلك الحجة التي أسكتت النمرود.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {البقرة/259}
في الآية السابقة أشير إلى التوحيد ومعرفة الله وقدرته، وفي هذه الآية إشارة على المعاد وهو الحياة بعد الموت.
تحكي لنا هذه الآية قصة حدثت مع بعض الأنبياء ولعله العزير الذي مر على قرية قد تهدمت ومات أهلها وتحولت عظامهم إلى رفات فعندما نظر إلى رفاتهم قال كيف يحيي هذه الله بعد موتها، ولم يكن طرحه للسؤال من باب الشك وإنما من باب التعجب، عند ذلك أماته الله مدة مائة سنة، ثمّ أحياه مرّة اُخرى وسأله: كم تظنّ أنّك بقيت في هذه الصحراء نائماً أو ميتاً؟ فقال وهو يحسب أنّه بقي ساعات قليلة: يوماً أو أقل، فخاطبه الله بقوله: بل بقيت هنا مائة سنة، انظر كيف طعامك وشرابك كيف أنه طوال هذه المدّة لم يصبه أي تغيّر بإذن الله. ولكن لكي تؤمن بأنك قد أمضيت مائة سنة كاملة هنا انظر إلى حمارك الذي تلاشى ولم يبق منه شيء بموجب نواميس الطبيعة، بخلاف طعامك وشرابك، ثمّ انظر كيف نجمع أعضاءه ونحييه مرّة اُخرى فعندما رأى كلّ هذه الأُمور أمامه قال: (اعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير)، أي: إنني الآن على يقين بعد أن رأيت البعث بصورة مجسّمة أمامي.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا هذا كناية عن أنها كانت خرِبة إما لأن بيوتها مهدمة أو أنها خالية من السكان، والمراد بالقرية سكانها، وهنا حدّث العزير نفسه حيث لم يكن معه مخاطَب سوى هذا الحمار الذي كان برفقته.
فأماته الله مئة عام ثم بعثه، بعضهم قال إنه لم يمت ولكنه كان في سبات عميق، ولا مانع عقلي من ذلك لأن أهل الكهف ناموا أكثر من ثلاثمائة سنة ولم يموتوا، غير أن الظاهر هو أن العزير فارق الحياة ثم أحياه الله بعد الموت ليرى بعض آيات الله، فهناك دلائل تدل على أن أهل الكهف ناموا أما هنا فالدلائل تدل على أن العزير مات ولم يتأثر جسمه بعوامل الطبيعة كطعامه الذي لم يتغير بإذن الله تعالى أما الحمار فقد أصابه التغير الطبيعي وهذا ما رآه العزير بأم عينه عندما أتى أمر الله بإحياء الحمار فرأى كيف راحت رفاته تتجمع من هنا وهناك ثم تحولت إلى عظام ثم كسا الله العظام باللحم ثم وهبه الحياة مرة أخرى.
ومع ملاحظة الفقرة الأخيرة من الآية نعلم بأن العزير لم يكن شاكاً بقدرة الله تعالى وإنما صدر هذا التساؤل ولعله أشبه قول إبراهيم(ع) الذي طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ولذا قال تعالى عنه: قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أنه لم يكن شاكاً بهذا الأمر.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {البقرة/260}
يستكمل القرآن الكريم حديثه عن المعاد الجسماني والروحي بذكر قصة مشابهة حدثت مع إبراهيم الخليل من قبل حيث طلب من الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى ولم يكن إبراهيم شاكاً بقدرة الله لأنه نبي من أنبيائه لا يخطئ ولا يعصي ولا يدخل الشك إلى قلبه وإنما كان لهذا السؤال تفسير غير الشك لقد مرّ إبراهيم (عليه السلام) يوماً على ساحل البحر فرأى جيفة مرميّة على الساحل نصفها في الماء ونصفها على الأرض تأكل منها الطيور والحيوانات وعند رؤية إبراهيم هذا المشهد خطرت في ذهنه مسألة يودّ الجميع لو عرفوا جوابها بالتفصيل، وهي كيفيّة عودة الأموات إلى الحياة مرّة اُخرى، ففكّر وتأمّل في نفسه أنّه لو حصل مثل هذا الحادث لبدن الإنسان وأصبح طعاماً لحيوانات كثيرة، وكان بالتالي جزءً من بدن تلك الحيوانات، فكيف يحصل البعث ويعود ذلك الجسد الإنساني نفسه إلى الحياة؟
فخاطب إبراهيم ربّه وقال: (ربّ أرني كيف تحيي الموتى).
فأجابه الله تعالى: أوَلم تؤمن بالمعاد؟ فقال (عليه السلام): بلى ولكن ليطمئّن قلبي.
فأمره الله أن يأخذ أربعة طيور ويذبحها ويخلط لحمها، ثمّ يقسّمها عدّة أقسام ويضع على كلّ جبل قسماً منها، ثمّ يدعو الطيور إليه، وعندئذ سوف يرى مشهد يوم البعث، فأمتثل إبراهيم للأمر واستولت عليه الدهشة لرؤيته أجزاء الطيور تتجمّع وتأتيه من مختلف النقاط وقد عادت إليها الحياة.
ويرى بعض المفسرين أن إبراهيم لم يذبح الطيور بل ضمها إليه ثم وضع كل واحد منها على جبل ثم ناداها فتجمعت إليه وذلك من باب بيان سهولة البعث على الله تعالى، وكأنه يريد أن يقول لإبراهيم إن عملية البعث عليّ سهلة مثل اجتماع الطيور إليك فأنت ناديتها فاستجابت لك وأنا أدعوها للحياة يوم القيامة فتستجيب لي.
وعلى أي حال طلب إبراهيم من الله أن يريه كيف يبعث الأموات فطلب منه ما طلب فامتثل للأمر وفعل ورأى مثالاً عن البعث وليس البعث الحقيقي على رأي بعض المفسرين.
قال أولم تؤمن؟ (بلى ولكن ليطمئن قلبي).
يُفهم من هذه الآية أيضاً على أنّ الإستدلالات العملية والمنطقية قد تؤدّي إلى اليقين ولكنها لا تؤدّي إلى اطمئنان القلب، إنّها ترضي العقل لا القلب إنّ ما يستطيع أن يرضي الطرفين هو الشهود العيني والمشاهد الحسيّة فالتعبر بالاطمئنان القلبي يدلّ على أن الفكر قبل وصوله إلى مرحلة الشهود يكون دائماً في حالة حركة وتقلَّب ولكن اذا وصل مرحلة الشهود يسكن ويهدأ، واعلم يا إبراهيم أن الله عزيز وحكيم.
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {البقرة/261}
يشجعنا الله تعالى على الإنفاق في سبيله لما للنفقة من منفعة على المجتمع في الدنيا وعلى الفرد في الآخرة، ومن باب الترغيب وبيان الحقيقة شبّه الحبة بسبع مئة، ولكن واقع الأمر أبعد من ذلك لأن الله يضاعف لمن يشاء والله واسع وكريم، وما ذكر السبعمئة إلا بيان للكثرة.
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {البقرة/262}
إنما يستحق المنفق الثواب المذكور إذا لم يؤذ المحتاجين بالمنة والكلام الجارح أما النفقة مع الأذى فلا أجر فيها بل ربما يكون فيها إثم.
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ {البقرة/263}
الكلمة الطيبة والدفع بالتي هي أحسن أفضل من الصدقة مع المنة والأذى فقد يدخل عليك المحتاج وأنت غير قادر على إعطائه ولكنك تستقبله استقبالاً رائعاً وترده بكلام عذب، وهذا النوع من الكلام هو الصدقة بعينها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ{البقرة/264}
يوجهنا رب العالمين في هذه الآية نحو ما فيه الخير لنا في الدنيا والآخرة ويخاطبنا بالذين آمنوا كي لا ننسى أننا مؤمنون به وأننا مسؤولون عن كل كلمة نلفظها وعن كل ما نقوم به صغيراً كان أم كبيراً فإذا تصدقتكم بصدقة على المحتاجين فلا تحبطوا أجرها بالمن والأذى فكأنكم حينها لم تنفقوا شيئاً والذي يفعل ذلك كان كمن ينفق ماله رئاء الناس أي حتى يراه الناس دون الله ويشكروه على صنيعه فهو بذلك يتقرب إلى مرضاة الناس وليس إلى رضا الله.
وللمزيد من البيان شبّه الله تعالى هذا العمل بصفوان عليه تراب، يعني كأن هذا الإنسان عنده صخرة صلبة عليها قشرة رقيقة من التراب فوضع البذور على هذا التراب فنزل المطر عليه فأزال الماء التراب والبذور ولن ينتفع الزارع شيئاً، والعيب هنا لا بالبذر ولا بالشمس ولا بالماء ولا بالهواء بل العيب في أن الزارع وضع البذور في مكان غير مناسب فإنه سوف يخسر البذر ولن يستفيد بشيء، وهذه هي حالة الذي ينفق ماله ثم يُتبع تلك النفقة بالمن والأذى.
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {البقرة/265}
أما الذين ينفقون أموالهم ويريدون بتلك النفقة رضا الله وتثبيتاً من أنفسهم يعني بيقين وإيمان فمثلهم كمثل الذي يضع البذور في المكان المناسب بل في ربوة وهي التربة الجيدة ثم ينزل عليه الماء الغزير فينبُت وينمو ويعطي أضعافاً للزارع، وإذا لم ينزل المطر الغزير فطل، أي المطر الخفيف أو شيء من رذاذ الماء يكفي لإنضارها.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ {البقرة/266}
يرغبنا الله هنا بأن تكون الصدقة خالصة لوجهه الكريم فيقول هل يحب أحدكم أن تكون له أرض فيها أشجار وثمار والماء من تحتحا يسقيها وفيها من كل الثمرات التي يريدها وعنده أولاد يريد أن يعيلهم فهل تقبلون أن يصيب تلك الجنة إعصار فيحرقها وتخسرون كل شيء، هذا ما يفعله من يبطل صدقته بالمن والأذى، وهكذا يبين الله لكم آياته لعلكم تتفكرون فيها وتأخذون بها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {البقرة/267}
في هذه الآية يأمر الله المؤمنين بأن ينفقوا من الحلال وليس من الحرام، وأن يعطوا السائل صدقة من المواد الجيدة وليس الرديئة التي ننفقها ولا نأخذ مثلها إلا إذا أغمضنا في عملية أخذها ولم نبال بصحتحا أو رداءتها، واعلموا أن الله غني عنا وعن صدقاتنا ولكنه تعالى يختبرنا بالنفقة.
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {البقرة/268}
الشيطان الرجيم يوسوس لنا كيلا ننفق من أموالنا واجباً ومستحباً ويخوفنا من الفقر إن نحن أنفقنا من مالنا شيئاً ولكن الحقيقة هو أنه يعدنا بالفقر لأن آثار الصدقة عظيمة على الإنسان في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنه لن يجوع ولن يعرى وأما في الآخرة فسوف يأمن من عذاب الله، وكذلك فإن الشيطان يأمرنا بفعل المعاصي حتى ينتقم منا ونصبح شركاء له في جهنم.
يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ {البقرة/269}
بالحكم يستطيع الإنسان أن يميز بين ما ينفعه أو يضره وبالتالي بالحكمة يعرف أن النفقة من المال الحلال تزيد في رزق الله، وإن الحكمة من نعم الله الكبرى فلقد عبّر القرآن عنها بالخير الكثير فهي إذن أهم النهم الإلهية التي ينعم بها على عباده، ولكن لا يتذكر إلا صاحب العقل السليم الذي لم يشوش الشيطان عقله.
وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ {البقرة/270}
يبين الله في هذه الآية سعة علمه بنا ولذا فيجب علينا أن ننفق من ماله دون تخوف لأن في ذلك منفعة لنا عنده في يوم القيامة، أما الذين لا يستجيبون لله ويظلمون أنفسهم فهؤلاء لن يجدوا لأنفسهم من ينصرهم من الله في يوم القيامة، فالله يعلم نوعية وكيفية النفقة وكذا ما يستتبعها من خير أو أذى، وكذا يعلم تلك النذور التي ننذرها قربة إليه، فلا ينبغي للإنسان أن يقوم بما لا يرضي الله عز وجل.
الشيخ علي فقيه



